لم يَعد من الممكن التعامل مع البيئة كمسألة منفصلة عن إدارة الدولة أو عن موازين العدالة، فالعدالة المناخية لم تَعد مفهوما بيئيا نخبويا، بل باتت تمثل أزمة سياسية حقيقية وإدارية عميقة، تختبر قدرة الحكومات على إدارة الأزمات على أسس أخلاقية واستراتيجية في آن واحد.
تكمن الأزمة في جوهرها في التناقض الصارخ بين من يُنتجون الكوارث المناخية ومن يتحمّلون كلفتها، فالدول الصناعية الكبرى، ذات التاريخ الطويل في تلويث الغلاف الجوي، ما زالت تملك الأدوات الاقتصادية والبنية التحتية التي تمكّنها من امتصاص بعض الصدمات، بينما تُترك الدول الفقيرة والهشة، والتي لم تساهم أصلا في تدهور المناخ، لتواجه آثارا كارثية على مجتمعاتها واقتصاداتها. هذه الفجوة لا تُعبّر عن خلل بيئي فحسب، بل عن غياب العدالة كقيمة تحكم العلاقات الدولية ونُظُم الحوكمة.
هنا تتحول العدالة المناخية إلى معضلة سياسية، لأن توزيع العبء المناخي ليس مجرد مسألة علمية، بل قرار سيادي يُبنى على مفاوضات دولية غير متكافئة، حيث ترفض بعض الحكومات الالتزام بخفض الانبعاثات أو تقديم التمويل، بينما تُطالب أخرى بحقها في ”التنمية أولا“ حتى لو كانت على حساب البيئة. وفي هذا الشدّ والجذب، تُدفن أصوات الشعوب الهشة التي لا تملك سوى التكيّف القسري مع أوضاع لم تُسهم في صناعتها.
أما من الناحية الإدارية، فتكمن الأزمة في ضعف البنية المؤسسية في كثير من الدول لمواجهة آثار تغير المناخ، سواء عبر التخطيط المدني، أو إدارة المياه، أو استراتيجيات الطوارئ، أو التكيّف الزراعي، فكثير من السياسات تُبنى كردود فعل لحظية، لا كرؤية استباقية تدمج المناخ في قلب القرار الإداري. وفي ظل غياب الحوكمة البيئية، تبقى العدالة المناخية شعارا فقط، دون أثر فعلي على الأرض.
إن العدالة المناخية ليست مجرد مطالبة بتعويض مالي، بل تتطلب إعادة النظر في معايير توزيع الموارد، وفي شكل الشراكات بين الشمال والجنوب، وفي طريقة صنع القرار الدولي. إنها تسعى إلى أن تُبنى السياسات البيئية على أساس ”من الأكثر هشاشة؟ ومن الأكثر قدرة على التحمّل؟“، لا على أساس من يملك سلطة التفاوض. كما تتطلب حكومات محلية تضع العدالة في صلب خططها، لا أن تكون مجرد منفذ لتعليمات دولية أو مموّل لمشاريع خارجية الشكل، خاوية الجوهر.
وفي العالم العربي، تبرز أهمية هذا الطرح أكثر، إذ أن المنطقة مهددة بالجفاف، وبفقدان الأراضي الزراعية، وبنزوح بيئي داخلي صامت قد يتحول إلى انفجارات اجتماعية، لا تُفهم إلا في ضوء فشل إدارة أزمة مناخية تم تجاهلها لعقود. فالأردن، على سبيل المثال، لا يملك ترف الانتظار، ولا يملك فائضا من الموارد، لكنه يملك فرصة لبناء نموذج استباقي في إدماج العدالة المناخية في السياسة العامة، شرط توفر الإرادة والشفافية والكفاءة.
العدالة المناخية اليوم هي مرآة للعدالة السياسية، فمن يُقصي الهش بيئيا، يُقصيه اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، ومن يُخفِق في إدارة الأزمة على أساس الإنصاف، إنما يُعيد إنتاج الظلم في ثوب جديد. ولهذا، فإن أزمة المناخ، كما هي بيئية، هي أيضا سؤال في جوهر السلطة: لمن تُصنَع السياسات؟ ولأيّ غد نُخطط؟
ثيمات |
• إقليمي • التمويل • الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية • تغير المناخ |